المسؤولية الجنائية المدارس المؤسسة لها و شروط قيامها

المسؤولية الجنائية المدارس المؤسسة لها و شروط قيامها

مقدمة:  
المسؤولية الجنائية كلما وجد أناس في مجتمع وهم لابد أن يجتمعوا، كانت الجريمة واقعة اجتماعية لابد من وقوعها في المجتمع البشري. فلكون الفرد كائن اجتماعي لا يمكنه أن يعيش بمعزل عن الجماعة، وذلك من أجل تعاونهم على تحصيل ضروراتهم وقوتهم، وإذا اجتمعوا دعت الضرورة إلى المعاملة، ومنه لابد من التنازع المفضي إلى المقاتلة. وعليه فالجريمة ظاهرة اجتماعية ظهرت بظهور الإنسان، ولازالت مستمرة إلى يومنا هذا. والجريمة لها أضرار جسيمة وتكاليف باهظة ونتائج تنعكس على برامج التنمية الاجتماعية والاقتصادية ورفاهية الإنسان. فالجريمة تسبب خسائر في الأرواح والممتلكات والأموال، مما يؤدي إلى إعاقة حركة الإنسان والحد من حرياته. لذا كان لابد من وجود قوانين تحدد الأفعال المجرمة والجزاء المقرر لها لكل من ثبتت في حقه المسؤولية الجنائية.
إن من يقدم على انتهاك القانون بارتكابه الواقعة الإجرامية يتحمل تبعة عمله ويخضع للجزاء الذي يقرره القانون وتوقعه الجماعة بحكم قضائي، فالجاني عند اقترافه الجريمة يكون قد وضع نفسه في مواجهة مع المجتمع، وذلك بخروجه عن دائرة حقه في استعمال حريته، مما يخول للدولة صلاحية الرد عليه بتوقيع الجزاء الجنائي بوصفها ممثلة للمجتمع، فالمسؤولية الجنائية تعني تحمل الشخص تبعة عمله المجرم بخضوعه للجزاء المقرر لفعله في القانون الجنائي.
وتتم دراسة المسؤولية الجنائية في نطاق الركن المعنوي للجريمة، إلا أن ذلك لا يعني بأن المسؤولية الجنائية عنصرا من عناصر الركن المعنوي .فالأخير يعد ركنا من أركان الجريمة لا تكتمل الأخيرة بدونه، بينما المسؤولية الجنائية هي نتيجة قانونية أو حصيلة ارتكاب الجريمة بجميع عناصرها وأركانها )الشرعي والمادي والمعنوي مالم يتطلب القانون أركان خاصة(.
بالرجوع إلى التاريخ، فقد عاشت أروبا فترة حرجة من الظلم والاستبداد، حيث كان أساس المسؤولية الجنائية يخضع لسلطة الحاكم، مما دفع كثير من الفقهاء آنذاك إلى المطالبة بالحد من سلطة القاضي في ميدان التجريم، والمطالبة بسن معايير وضوابط تنبني عليها المسؤولية الجنائية[1].
وعليه لايزال موضوع هذه الأخيرة ومدى تحمل الإنسان المقترف للإجرام المسؤولية من عدمها من أكثر الموضوعات مثارا للخلاف في وجهات النظر بين المفكرين والباحثين والفقهاء والفلاسفة، فما زال الجدال قائما والنقاش محتدما حول حسم هذا الموضوع الشائك بين المذاهب المختلفة، وخاصة بين أنصار مذهب التسيير )الجبر( وأشياع مذهب التخيير )الاختيار( ويعزى سبب استمرارية الجدل فيه والخلاف عليه هو أن كل فريق مازال متمسكا برأيه ومتشبتا بوجهة نظره في موقفه من هذا الموضوع. فمنهم من يرى أن الإنسان يمتلك حرية التقدير في كافة أفعاله المختلفة، وهو بذلك يكون مختارا لأفعاله مميزا لها ومدركا لعواقبها، وعلى هذا الأساس فإنه يتحمل المسؤولية كاملة، بينما نرى في الجانب الآخر تفسيرات على النقيض من ذلك تماما، وهي تقوم على أساس فكرة الجبر في ارتكاب السلوك الاجرامي، وهذه التفسيرات جاءت بوصفها محاولة جادة في طريق تحويل قوانين السببية من ميدان العلوم الطبيعية إلى ميدان العلوم الاجتماعية، كالعلوم الجنائية، وذلك لما أحرزته الطرائق العلمية التجريبية التي تقوم عليها مثل هذه التفسيرات من نجاح علمي ملموس، الأمر الذي كان بمثابة إيذان باختراق حدود العلوم الاجتماعية التي بقيت عبر التاريخ شديدة الولاء للتفسيرات الميتافيزيقية القائمة على فرضيات المنطق المجرد.
وبذلك سنحاول أن نسلط الأضواء عن فحوى ومضمون الأفكار التي جاءت بها المدارس والنظريات التي تدعو لأساس مذهب الاختيار في تفسير السلوك الإجرامي والمسؤولية الجنائية المترتبة عليه بغية استجلاء حقيقة هذا الأساس الذي يقوم عليه هذا النمط من السلوك، فلا ريب أن الإرادة الحرة تمثل قدرة الإنسان على اتخاده موقفا دون آخر، وعلى هذا الأساس عرفها هذا المذهب بأنها القدرة على المفاضلة بين البواعث المختلفة وتوجيه الإرادة وفقا لأحدها [2]،أي قدرة الإنسان على المفاضلة والترجيح بين سلوك الطريق المتسق مع القانون والطريق المخالف له.
وتقاس مقدرة الانسان على اختيار طريق بعينه دون سواه بمدى ملائمة الدوافع التي تغري بارتكاب الجريمة، فإن كان باستطاعته ذلك، ولكنه لم يفعل وانساق وراء هذه الدوافع فهو حر ومسؤول، والجاني أمامه طريقان، طريق الخير وطريق الشر، فهو إذن مختار في ذلك ويجب أن يتحمل مسؤولية سلوكه المخالف للقانون [3]. وبذلك يتجلى مما تقدم أن الأدلة والحجج التي يستند عليها هذا المذهب هي أن حرية الاختيار تعد الأساس الوحيد الممكن تصوره للمسؤولية، إذ أن المسؤولية في حقيقتها هي لوم ومخالفة صريحة للأخلاق والقانون ولا يمكن أن يقع على أحد اللوم، إلا من كان بإمكانه سلوك طريق آخر أو اختار سبيل دون غيره. إذ يشعر الإنسان بمقدرته على المفاضلة بين الخيارات المختلفة، كما يحس في الوقت نفسه بعدم خضوعه لعوامل معينة أو انقياده لها فتضطره إلى سلوك محدد أو القيام بتصرف معين، ومثل هذا الشعور يستند على وجه العموم إلى الخبرة الإنسانية.
وإذا استعرضنا المدارس الفكرية والفلسفات القديمة في هذا المجال نرى أن الفلسفة الاغريقية تقوم في جوهرها على الاعتقاد المطلق بحرية الإنسان في اختيار أفعاله المختلفة وهذا الاعتقاد هو ما يأخذ به أصحاب فكر المعتزلة في جانب الشريعة الإسلامية، الذين يعتقدون أن الإنسان قادر وخالق لأفعاله خيرها وشرها، مستحق على ما يفعله ثوابا وعقابا في الدار الآخرة والخالق عز وجل منزه من أن ينسب إليه شر وظلم لأنه لو خلق الظلم لكان ظالما كما لو خلق العدل لكان عادلا[4].
وفي هذا الصدد ظهرت مدارس نحت هذا المنحى واستطاعت أن تؤسس لها قاعدة ترتكز عليها في تفسير السلوك الإجرامي وأبرز هذه المدارس المدرسة التقليدية القديمة والمدرسة التقليدية الجديدة، كما تجدر الإشارة إلى أن هذه المدارس على الرغم من تمتعها بعناصر قوة إلا أنها في الوقت نفسه تعاني من نقاط ضعف .
ومن هذا المنطلق تبرز لنا أهمية هذا الموضوع لما يحمله من قيمة علمية يمكن اعتمادها كأساس لتحديد المسؤولية الجنائية عن خطئ الفرد وعن الأضرار المترتبة من جراء فعله. وبذلك سنحاول الإجابة على حزمة من التساؤلات بخصوص مذهب الاختيار موضوع الدراسة من خلال التطرق إلى الأسانيد التي ساقها للتدليل على صحة أفكاره لكي يحظى برضا وقبول الرأي العام في مجتمعه حتى يكون هو المذهب الغالب في الأوساط الاجتماعية أو لدن أصحاب الفكر أو أرباب العلم والاجتهاد.
وانطلاقا مما تقدم، ماذا نعني بأساس المسؤولية الجنائية وفق المذهب الاختياري؟
وما هي أبرز الحجج التي ساغتها المدارس التقليدية لتدعيم وجهة نظرها؟
وما هي الشروط والموانع التي تقوم عليها المسؤولية الجنائية وفق أنصار مذهب الاختيار؟
وللإجابة على الإشكاليات السالفة الذكر، وللإحاطة بكل جوانب الموضوع ارتأينا اعتماد التصميم الآتي:
 
 

  • المبحث الأول: أبرز المدارس المؤسسة لمذهب الاختيار

 

  • المبحث الثاني: شروط قيام المسؤولية الجنائية المؤسسة على مذهب الاختيار وموانع قيامها

 
 

  • المبحث الأول: أبرز المدارس المؤسسة لمذهب الاختيار

يعتبر أساس المسؤولية الجنائية من أهم الإشكالات الحقيقية التي شغلت بال الفقهاء وأشعلت فتيل الصراع بينهم، فالبحث في المسؤولية عامة وفي أساسها خاصة من أدق البحوث القانونية وأشقها، لأن تحديد الأساس هو المقدمة الضرورية والخطوة الصلبة لتبيان  أركان المسؤولية وشروطها وموانعها وآثارها.
وبالرجوع للمذاهب الفقهية المرتبطة بالمسؤولية الجنائية نجد المذهب التقليدي المبني على فكرة حرية الاختيار، إذ يرى أنصاره أن كل إنسان بالغ عاقل يسعه التمييز بين الخير والشر، والمباح والمحظور، كما يسعه التحكم في سلوكه فلا يأتي منه إلا ما يريد. وفي هذا الإطار ظهرت مجموعة من المدارس الفقهية التي بنت توجهها على فكرة حرية الاختيار أهمها المدرسة التقليدية الأولى )المطلب الأول( والمدرسة التقليدية الحديثة )المطلب الثاني(.

المطلب الأول: المدرسة التقليدية القديمة  (L’école classique)

ترجع نشأة هذه المدرسة إلى وقت كان يسود فيه نوع من الخلل في النظام الجنائي ككل، فالعقوبات كانت تتسم بالشدة والقسوة وعدم التناسب مع قدر الضرر والخلل
الاجتماعي الذي أحدثته الجريمة، كما أن القضاء قد أصابه التحكم والهوى والرغبة فقط في إرضاء الحاكم، و بعيدا عن تحقيق المساواة بين المواطنين. ويظل الفضل في الثورة على هذا الاستبداد الجنائي إلى الفيلسوف والمفكر الإيطالي “سيزار بونزانا دي بيكاريا” )1735 – 1794( وذلك من خلال مؤلفة الشهير “عن الجرائم والعقوبات” الذي يعد بحق نقطة تحول في تاريخ القانون الجنائي عامة.
إن أساس المسؤولية الجنائية في المدرسة التقليدية يقوم على الإرادة أي حرية الاختيار المطلقة، لما كانت وظيفة العقوبة وهدفها لدى أنصار المدرسة الكلاسيكية هي الردع بشقية العام والخاص، وأن هذا الردع يقوم على أساس خلقي، يتمثل في تقويم وتهذيب إرادة المجرم، فكان لابد من تحديد المسئولية الجنائية وحصرها في كل شخص أهل لتحملها من واقع ثبوت الإرادة وحرية الاختيار لديه، الأمر الذي لا يتوافر لدى عديمو الإرادة ولدى من يثبت جنونه أو صغر سنه، فالمجرم لدى أنصار المدرسة التقليدية ليس إنسانا وحشيا أو مريضا أو كافرا، بل هو فرد خالف عن وعي وإرادة العقد الاجتماعي، فهو إنسان حر الإرادة والاختيار، لكنه أساء باختياره وإرادته استعمال حريته. وحرية الاختيار تلك أي حرية الموازنة والخيرة بين طريق الخير وطريق الشر لدى أنصار المدرسة الكلاسيكية متساوية لدى جميع الأفراد، مما يوجب المساواة التامة بين جميع المجرمين الذين يتمتعون بملكتي الإدراك والتمييز. وقد ترتب مع هذه المساواة أن اعتمدت هذه المدرسة مبدأ العقوبة ذات الحد الواحد، بحيث ينحصر دور القاضي في تطبيق العقوبة المقررة قانونا، وعلى هذا النحو فلا يوجد أي صدى لمبدأ تفريد العقوبة. كما انتفى لدى أنصار هذه المدرسة الأخذ بفكرة المسؤولية المخففة أو الأخذ بنظام العفو الخاص. فضوابط التجريم والعقاب ضوابط مادية وموضوعية مجردة[5].
ترعرعت هذه المدرسة في عصر سادت فيه فكرة العقد الاجتماعي التي نادى بها الفيلسوف الفرنسي “جان جاك روسو” مفادها أن الفرد يخضع للمجتمع بإرادته الحرة وينضوي تحت مظلته مقابل دفاع المجتمع عنه وعن ممتلكاته بمسؤولية كل منهما تجاه الآخر، وبالتالي فإن الفرد لا يتنازل عن حريته إلا بالقدر اللازم لاستقرار الحياة في المجتمع، وذلك يؤسس بالتالي حق الدولة في العقاب استنادا إلى العقد الاجتماعي، وكل طغيان وتعسف يتجاوز القدر اللازم لحماية الأمن العام في المجتمع يعتبر عقوبة طاغية لا تمت للعدالة بصلة يجب محاربتها[6].
ومبدأ “حرية الاختيار” كأساس للمسؤولية الجنائية اعتنقه “بيكاريا” ونادى به، ومفاده أن الإنسان يولد حرا ويعيش في كنف هذه الحرية وله حرية الاختيار بين الخير والشر بما له من عقل، وبتلك التصرفات الغائية أي التي تحقق غاية معينة يستطيع بها التمييز بين الأفعال التي تجلب إليه لذة ويتحاشى تلك التي تصيبه بألم، وما دامت حرية الاختيار متساوية عند جميع الأفراد فيجب المساواة التامة في المسؤولية بين جميع
 
المجرمين الذين يتمتعون بملكتي الإدراك والاختيار، ويخرج عن هذا المجنون والصغير اللذان هما غير أهل للمسؤولية الجنائية[7].
وبسبب اعتناق هذا المذهب الذي يؤسس المسؤولية الجنائية على حرية الاختيار وقيام المسؤولية الجنائية على أساس الضرر المترتب عن الجريمة، وعدم الالتفات إلى شخصية الجاني ومراعاة ظروفه الشخصية والاجتماعية وميوله ومدى خطورته، الأمر الذي يجعل العقوبة ذات حد واحد لكل جريمة ويصبح دور القاضي مجرد أداة في يد العدالة تقتصر مهمته على الفصل في ثبوت البراءة أو الإدانة والنطق بالعقوبة المحددة سلفا طبقا للقانون، وبالتالي ليس هناك محل لمبدأ تقرير العقوبة الذي عن طريقه تختلف المعاملة العقابية من جان إلى أخر حسب ظروفه التي قادته إلى ارتكاب الجريمة، وبالتالي إنزال العقوبة الملائمة عليه، ويعتقد “بيكاريا” أن مثل هذا النظام يحقق أكبر قدر من الضمانات للجاني ضد تعسف وشطط القضاة، والحد من حريتهم الزائدة في تطبيق الأحكام.

  • الفقرة الاولى: تقييم هذه المدرسة

من حيث قيمتها العلمية يمكن القول بأن لها فضل القضاء على مساوئ النظام العقابي السائد في ذلك العصر، حيث كان يقتص من الجاني بأساليب وحشية، فخففت من السلطات التحكيمية التي يتمتع بها القضاة[8]، مما أحدث انقلابا في فلسفة النظام الجنائي القديم برمته، ويرجع إليها الفضل في إرساء قواعد التشريع الجنائي الحديث حيث كان ذلك واضحا في إعلان حقوق الإنسان الصادر في فرنسا في 26 اغسطس1789، وظهر أساسها في قانون العقوبات الفرنسي الصادر في عام 1791 [9]، وأبرز هذه القواعد “حرية الاختيار والمسؤولية الشخصية للعقوبة والتخفيف من غلواء العقوبات”.

  • الفقرة الثانية: الانتقادات التي وجهت لها

غير أن هذه المدرسة لم تسلم من العيوب وأبرزها: أنها اتجهت نحو التجريد المطلق[10]، بإغفالها شخص الجاني وبواعثه والظروف المحيطة به والدوافع التي قادته إلى الجريمة، أي بمعنى التركيز على الجريمة دون فاعلها، وذلك مؤسس على الهدف الأسمى لدعاتها بتحقيق المساواة المطلقة بين المجرمين في العقوبة بسبب رواسب الماضي أثناء فترة تحكم القضاة واستبدادهم، غير أن المساواة المجردة لا تحقق العدالة لارتكازها على جانب واحد من جوانب الجريمة وهو الجانب المادي، إما الجانب النفسي الذي يتمثل في الإرادة الإجرامية التي تهدف إلى تحقيق ماديات الجريمة فقد كان مهملا.
وواقع الأمر أن إخضاع كل من ارتكبوا نفس الجريمة لعقوبة واحدة لاشك أنه يعبر عن الإخلال الفاضح بقواعد العدالة التي تتطلب ضرورة ملائمة العقوبة لشخصية مرتكبها في الكم وطريقة التنفيذ.
وأهم نقد وجه للمدرسة التقليدية الأولى أنها ليست سياستها الجنائية على ما للعقوبة من أثر في الردع العام، وبالتالي المغالاة في العقاب من ناحية جسامته وأغفلت شخصية الجاني وظروفه ومحاولة لإصلاحه وتهذيبه وتأهيله لكي تجنبه العودة إلى ارتكاب الجريمة مستقبلا[11].

المطلب الثاني: المدرسة التقليدية الحديثة

لقد داعت وانتشرت أفكار جديدة خلال القرن التاسع عشر تبلورت فيما يعرف بالمدرسة التقليدية الجديدة التي قامت على أنقاض المدرسة التقليدية القديمة، وأن عدلت منها بعض الشيء وخاصة أفكار الفيلسوف الألماني “كانت/ Kant” (1724-1804) الذي كان معاصرا لأقطاب المدرسة التقليدية، فقد كان يؤسس حق العقاب على أساس تحقيق “العدالة المطلقة” وليس كما هو في المدرسة التقليدية الأولى، فهو على الأساس النفعي الاجتماعي. ومن أقطابها أيضا: روسي )Rossi(، واورتولان )Ortolan(، ومولينيه
)Molinier( في فرنسا، وكرارا )Carrara( في ايطاليا، وبرويشن، وميترماير
)Mitteremaier( في ألمانيا، وهوس )Haus( في بلجيكا.
وانضم عدد من الفقهاء إلى هذه المدرسة في النصف الأول من القرن العشرين وعلى رأسهم غارسون )Garson(، وجاروفالو)Garofalo(، ودونديو دفابر .)Donnedieu de vabres(
أنا بالنسبة للأسس الفلسفية التي ارتكزت عليها هذه المدرسة، فقد قامت فلسفة هذه المدرسة على دعامتين أساسيتين هما حرية الإرادة، والتوفيق بين العدالة والمنفعة، ونعرض فيما يأتي لهاتين الدعامتين في الفقرة الأولى، ولأهم الانتقادات التي طالت هذه المدرسة في الفقرة الثانية.

  • الفقرة الأولى: دعامات هذه المدرسة

  • حرية الإرادة: كانت نظرة المدرسة التقليدية الأولى نظرة مجردة لحرية الإرادة أو الاختيار باعتبارها القدرة على اختيار طريق التصرف، أما المدرسة التقليدية الجديدة فقد جاءت بمفهوم جديد لتلك الحرية ينطوي على القدرة على مقاومة البواعث الشريرة[12]، وهي تعتبر ميزان المسؤولية الجنائية، فالناس ليسوا سواسية من حيث قدراتهم على مقاومة الدوافع التي تقود إلى الجريمة، فلكل شخص ظروفه، وبالتالي يتمثل في إنزال العقاب بالجاني كمقابل حتمي لحرية الإرادة التي دفعته لارتكاب الجريمة بغض النظر عن فكرة المنفعة الاجتماعية.
  • التوفيق بين العدالة والمنفعة: لقد تأثرت هذه المدرسة برأي الفلسفة الألمانية بزعامة

)كانت( الذي يقول : “أن العقاب غايته إرضاء شعور العدالة عند الجماعة”، ويتمثل ذلك كما سلف الذكر في إنزال العقاب بالجاني كمقابل حتمي لحرية الإرادة التي
 
دفعته لارتكاب الجريمة بغض النظر عن فكرة المنفعة الاجتماعية، وبالتالي فإن رجال هذه المدرسة قد جمعوا بين فكرة العدالة وفكرة المنفعة الاجتماعية[13].
وعليه فإن العقوبة أساسها العدالة وهدفها تحقيقها في حدود المنفعة الاجتماعية، فلا يحق للمجتمع أن يعاقب الجاني بما يفوق الحدود التي تتطلبها المصلحة العامة للمجتمع، فالعقوبة لا تكون مشروعة إلا في نطاق اجتماعها بالعدالة والمصلحة العامة[14]. والواقع أن هدف هذه المدرسة عموما التوفيق بين أراء المدرسة التقليدية والأفكار الحديثة المستندة على العدالة.
وعلى الرغم من اتفاق هذه المدرسة مع المدرسة التقليدية القديمة في أن أساس المسؤولية الجنائية يقوم على مبدأ حرية الاختيار )الإرادة( إلا أن أقطاب هذه المدرسة يخالفون نظراءهم برفضهم لفكرة المساواة بين الأفراد في حرية الاختيار، لأن هذه الحرية تختلف من شخص إلى آخر، فمنهم من هو عديمها ولدى غيره ناقصة، ولكن المسؤولية تكون بقدر هذه الحرية، فضابطها إذن هو مقدرة الشخص على مقاومة البواعث الشريرة التي تدفعه إلى سلوك طريق الجريمة، وهي بالطبع تتفاوت من فرد إلى أخر.
ومن جهة أخرى فقد وضعت هذه المدرسة حجر الزاوية لنظام تفردي العقوبة حيث نقلت الاهتمام من الجريمة إلى الاهتمام بالمجرم مع مراعاة ظروفه الشخصية والبواعث التي دفعته إلى الإجرام ومدى خطورته[15].
وأنارت هذه الأفكار الطريق أمام قوانين العقوبات فيما بعد، كقانون العقوبات الفرنسية المعدل سنة 1832، حيث استبعدت منه العقوبات الوحشية كقطع اليد قبل تنفيذ عقوبة الإعدام، ووضع بعض العقوبات بين حدين أدنى وأقصى، والاعتراف بنظرية الظروف القضائية المخففة، ولكنها في نطاق ضيق مما يسمح للقاضي بسلطة تقديرية يستطيع استخدامها في حالة توافرها في شخص الجاني، أو الظروف المحيطة بارتكاب الجريمة.
وامتدت هذه الأفكار خارج فرنسا حيث تأثر بها قانون العقوبات الألماني الصادر في عام 1870، وقانون العقوبات الايطالي الصادر في عام 1889.
إلا أن بعض أنصار هذه المدرسة دعوا إلى إعادة النظر في نظام التنفيذ العقابي
)السجون( برمته، لما لاحظوه من فساد السجون وعدم الاهتمام بها، بوضع برامج إصلاحية تهذيبية لنزلائها.

  • الفقرة الثانية: الانتقادات التي وجهت لها

وعلى الرغم من هذا كله أن هذه المدرسة لم تسلم من النقد، فقد عيب عليها أنها لم تأخذ بمدلول محدد لحرية الاختيار وفقا لمعيار يمكن به قياس مقدرة الشخص على مقاومة البواعث الشريرة التي تجرفه نحو الجريمة، مما يقود -وفق هذه النظرية- إلى نتيجة شاذة مقتضاها تخفيف العقاب على من لا يستحقه كالمجرمين العائدين والمعتادين للإجرام الذين تتناقض لديهم المقدرة على مقاومة البواعث الشريرة، الأمر الذي جعل اختلاطهم بالجناة المبتدئين كارثة عارمة، فيتعلمون منهم دروسا في الجريمة والإجرام حتى إذا ما خرجوا هم أيضا أصبحوا عائدين بسبب ارتكابهم لجرائم أخرى، كذلك ما يؤدي به اختلاطهم من ناحية أخرى لارتكاب جرائم جنسية داخل السجون ذاتها، كذلك تؤدي فكرة حرية الاختيار التي نادت بها هذه المدرسة إلى التوسع في تطبيق عقوبات قصيرة المدة سالبة للحرية مما أدى إلى النتيجة السابقة أيضا، وبالتالي إهدار جانب مهم وخطير أثناء تنفيذ العقوبة على الجناة وهو غرض الإصلاح والتأهيل الذي يجب أن تضطلع به السجون.[16]
كما عيب عليها أيضا أخذها بنظام المسؤولية المخففة الذي يستفيد منه المجرم الخطير الذي مسحت من ذهنه العوامل المنفرة من الجريمة، دون الجاني المبتدئ مما يؤدي إلى نتيجة غير منطقية وليست عادلة في نفس الوقت.[17]
وبسبب هذه الانتقادات وغيرها أصبح الطريق مفتوحا لظهور المدرسة الوضعية التي تعتمد الملاحظة والتجربة أساسا للدراسات العقابية، وهو ما سوف نلقاه في حينه في العرض المولي لهذه الدراسة المتواضعة.
المطلب الثالث:  مذهب المعتزلة )الشريعة الإسلامية(
نشأ المعتزلة في العراق واشتهروا بالقول أن الله خالق لكل شيء وقد خلق في
الإنسان قوة تمكنه من سلوك الطريق الذي يريده ومن ثم فإن أتى بمعصية فهي مسندة إليه أي إلى إرادته، فالله سبحانه وتعالى لا يعاقب الإنسان على أمور ليست من أفعاله، ولا يقبل أن يقدر عليه أمرا ثم يفرض عليه عقوبة لارتكابه، فللإنسان إرادة حرة مطلقة في كل ما يفعله[18]،وبذلك فهو مخير في أفعاله وله أن يختار بين الشر والخير والدليل قوله تعالى “أنا هديناه السبيل”، وكذلك قوله جل وعلى “وهديناه النجدين”، وسبق علم الله بأفعال الناس لا يجوز أن يكون مانعا من الإيمان، وأن الله غير خالق لأفعال الناس وأن العامل الداعي أو الموجب لفعل الإنسان ليس من خلق الله بل من خلق الشيطان والنفس الأمارة بالسوء[19].
وهكذا فإن توفر الإنسان على حرية اختيار يفرض توضيح وتحديد الأفعال.
ويقول مؤسس مذهب المعتزلة في هذا الصدد “أن العبد هو الفاعل للخير والشر والإيمان والكفر والطاعة والمعصية، وهو المجازى على فعله، والله تعالى أقدر على ذلك كله، وأفعال العباد محصورة في الحركات والسكنات، والاعتمادات والنظر والعلم، ولا يملك الاقتدار على الإتيان به، ومن أنكره فقد أنكر الضرورة واستدل بآيات على هذه الكلمات”[20]. كما استدل أنصار مذهب الاختيار هم الآخرين بالعديد من الآيات القرآنية التي تدل على حرية الاختيار لدى الإنسان واحتجو بها، ومنها قوله تعالى: “إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا.”
وقوله تعالى أيضا: “إن الذين لا يرجون لقائنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها أولئك مأواهم النار.” وهو ما يؤكده كبار الصحابة، فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في تفسير للآية الكريمة “آلم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين” أنه قال إن الله سبحانه وتعالى قد وهب الحواس للإنسان كي يتفكر ويختار طريق الخير أو الشر[21].
وعلى ضوء ما تقدم يمكن القول أن أساس المسؤولية الجنائية هو إساءة الفرد استعمال حرية الاختيار، وما يترتب عن سوء الاختيار من مسؤوليته أمام الله والخلق أجمعين، مادام أنه يملك عقلا راشدا وإرادة غير مقيدة، حرة فيما تفعل وقادرة على التوجيه والتمييز بين الخير والشر، الحسن والقبيح، الصالح والطالح. وعليه فإن أساس المسؤولية الجنائية عند ارتكاب الجريمة إذن هو وجود المسؤولية الأخلاقية والأدبية، ولا يتحملها إلا من تتوافر فيه الحرية التي تعني قدرة الإنسان على توجيه نفسه إلى فعل معين أو الامتناع عنه، والشرط الثاني هو الإدراك أو التمييز أي قدرة الشخص على فهم ماهية أفعاله وتقدير نتائجها، فإذا تخلف الشرطان أو أحدهما، كأن فقد الجاني إدراكه لجنون أو عاهة في العقل أو كان مكرها على ارتكاب الفعل لا يكلف من الله لأنه فقد أداة الاختيار بين البدائل، والذي لم ينضج عقله بعد لم يكلف أيضا، لأنه لم يصبح أهلا في الحكم على الأشياء، وأنه ربط التكليف بالعقل وجودا ونضوجا ليدل بذلك على أن مهمة التكليف هي في الأمر الاختياري الذي يجد له الإنسان بديلا، ولو أن الانسان لم يكن مخيرا لاستوى أن يكلف المجنون
والعاقل وناضج العقل وغير ناضج العقل. وعلى هذا الأساس يكون الإنسان في نظر القانون الجنائي مسؤولا مسؤولية مباشرة أمام القضاء جراء قيامه بسلوك إجرامي طالما أنه “عاقلا ويملك حرية الاختيار”

المبحث الثاني: شروط قيام المسؤولية الجنائية المؤسسة على مذهب الاختيار وموانع قيامها

لقيام المسؤولية الجنائية يشترط وجود الإرادة الحرة عند الفاعل وهي لا تكون كذلك إلا بتوافر الإدراك، والتمييز لديه، ومعنى هذا أن المسؤولية الجنائية تغيرت بتغير عناصر الإرادة )الإدراك والتمييز والحرية لدى الشخص،(  وجودا وعدما كملا ونقصا، وعليه يكون مثلا فاقد الإدراك )لجنون( أو لأية عاهة أو تمييز )لصغر( والمكره، غير ممكن
نهائي مسائلتهم من الناحية الجنائية، ولكن يكون في المقابل الصبي الذي يتوفر على قدر من التمييز مسؤولا جنائيا، إلا أن هذه المسؤولية ناقصة. وهو ما سنبينه من خلال المطلبين الآتيين

المطلب الأول: شروط قيام المسؤولية الجنائية   

لا تقوم المسؤولية الجنائية إلا بقيام الإدراك والتمييز وحرية الاختيار، فقواعد القانون الجنائي توجه لمن يدركها ويفهم ماهيتها، ويضبط أعماله وفقها، وهو الإنسان الذي إذا ارتكب جريمة أمكن مسائلته جنائيا، أما إذا فقد إدراكه وإرادته الحرة في السيطرة على أعماله سقطت عنه المسؤولية الجنائية.

  • الفقرة الأولى: الإدراك و التمييز

الإدراك أو التمييز أحد شرطي المسؤولية، ويطلق عليهما أيضا تعبير أو الوعي أو الشعو، والشخص لا يكون أهلا للمسؤولية الجنائية إلا إذا كان متمتعا بهذه الملكة، ومع أن معظم التشريعات لم تحدد ما المقصود بملكة الإدراك أو التمييز، إلا أن المعنى العام لهذا المصطلح هو قدرة الشخص على فهم قيمة ما يأتيه من أفعال، أي قدرته على إدراك القيمة الإجتماعية للسلوك الذي يصدر عنه، وما ينطوي عليه هذا السلوك من ضرر على حقوق الغير، وبالتالي مدى توافقه أو تعارضه مع مقتضيات الحياة الاجتماعية فالشعور أو الإدراك أو التمييز مصطلحات مترادفة المعنى ويقصد بها قدرة الشخص على فهم ماهية الفعل الذي يأتيه وطبيعة ما يترتب عليه من أثار.
لقد ذهب علماء النفس إلى تعريف الإدراك أو التمييز بكونه عملية عقلية تتم بها
معرفة العالم الخارجي عن طريق التنبيهات الحسية التي يدركها الإنسان عن طريق حواسه حول ذلك الوسط، ولهذا يلعب الإدراك دورا هاما للأحداث التوافق والتفاعل بين الفرد وبيئته.
وهذه العملية تمر بمراحل متعددة تبدأ بمرحلة الإحساس المادي بالوسط الخارجي تم مرحلة الشعور أو الوعي الحسي عن طريق المؤثرات الحسية والعصبية، وهي تتطلب أن تكون مراكز المخ بحالة جيدة وطبيعية، وهي تكون كذلك متى كانت سيطرة الجهاز العصبي على أعضاء الجسم بأكمله، فإذا حدث عيب في هذا الجانب اختل الإدراك ولم تعد للمرء قدرة على الفهم المجرد، ومن تم يفقد الشخص في هذه الحالة ملكة الإدراك أو الشعور كعنصر للأهلية الجنائية وتنعدم بذلك المسؤولية.
تم تأتي في الأخير مرحلة الإدراك العقلي باعتبارها عملية ذهنية أو عقلية خالصة تعبر عن ملكة الشعور أو القدرة على الإدراك والفهم بمعناه الصحيح، إذ تتحول إحساسات من أمور مادية حسية إلى معاني ومفاهيم ذهنية لها دلالاتها .
ويجب لتوافر الشعور عل هذا المستوى أن تكون القدرات العقلية والنفسية والذهنية سليمة وطبيعية، ذلك للأن انعدام أو ضعف هذه القدرات يأثر سلبا في أهلية الشخص الجنائية ويترتب على ذلك أن هذه الأهلية تنعدم أو تنتقص حسب ظروف كل حالة على حدى ومثاله أن معظم التشريعات تقرر افتراض انتفاء الأهلية الجنائية قبل بلوغ سن التمييز[22].

• الفقرة الثانية: حرية الاختيار

يعتبر مبدأ حرية الاختيار الشرط الثاني لقيام المسؤولية الجنائية وهو يعني قدرة الإنسان على توجيه نفسه على عمل معين أو الامتناع عنه أو هي قدرته على الفعل أو الترك، ولها المعنى نفسه في المجال الجنائي، إذ يراد بها قدرة المرء على تصفح السلوكيات الممكنة وانتقاء أفضلها من وجهة نظره[23]، وكذا يقصد بحرية الاختيار قدرة الشخص على المفاضلة بين الأمور والاختيار بناء على تلك المفاضة، وهذه الأخيرة بالنسبة للجاني تكون بين العوامل الدافعة للجريمة والعوامل المانعة لها، ولم يضع المشرع معيارا تقاس به حرية الإرادة في الاختيار لعدم وجود مثل ذلك المعيار، لذلك التجأ إلى الافتراض، فافتراض حرية الإرادة في الإنسان العاقل افتراضا يقبل إثبات العكس أي بقرينة قانونية غير قاطعة فيجوز إثبات عدم حرية الإرادة متى خضعت تلك الإرادة لضغوط جعلتها غير حرة في
اختيارها سواء أعدمت ذلك الاختيار أو انتقصت منه لدرجة جعلت منه غير ذي قيمة قانونية، مما يعني أن من يرتكب جرما الأصل فيه أن يكون أهلا لتحمل الجزاء ولا حاجة للقضاء إلى التثبت من سلامة إدراكه وحرية اختياره، إلا اذا تمكسك الجاني بما يخالف ذلك فيقع عليه عبئ الإثبات[24].
ولتوافر حرية الاختيار لابد من أمرين هما:

  • إمكانية الفعل فإذا كان الفعل أو السلوك المراد غير ممكن أو مستحيل في ذاته فلا محل للقول بحرية الاختيار في مواجهته.
  • وجود البدائل أي أن يوجد أمامه أكثر من فعل ممكن فلا تقوم حرية الاختيار أمام الفعل الواحد الذي لابديل له فلابد من إمكان الفعل وإمكان الامتناع حتى نقول بحرية الاختيار.

ثمة ترابط بين حرية الاختيار والإدراك إذ لا وجد للإرادة الحرة )حرية الاختيار( بغير إدراك سليم، ذلك لأن من لا يمتلك الإدراك لا يقوى على التمييز بين الصواب والخطأ، وبالتالي لا يقوى على توجيه إرادته، فإن حرية الإرادة شرط وجودها الإدراك حيث لاوجود للإرادة الحرة مالم تكن هذه الإرادة مدركة.

المطلب الثاني: عوارض المسؤولية الجنائية

لا مجال للكلام عن المسؤولية إلا بعد قيام الجريمة، التي تكتمل باكتمال أركانها الثلاث: المادي، الشرعي، المعنوي.
وتوافر هذه الأركان أمر واضح في مجال الجريمة، المادي والشرعي، فمن حيث الركن المادي يكتفى بالتحقق من وجود الواقعة الإجرامية ونسبتها إلى الفاعل بحيث نكتفي بمتابعة عناصر السلوك المادي للجريمة من اكتمالها لنقول بتوافر هذا الركن، كما يتطلب توافر الركن الشرعي خضوع الواقعة الإجرامية لنص تجريمي.
على أن الأمر يبدو أكثر تعقيدا أو غموضا عندما يتعلق بالركن المعنوي للجريمة،
إذا أن جوهر الركن المعنوي “إرادة إجرامية” وهي صفة نفسية وليس من السهل تحديدها والبت بشأنها، وكذا وجب أن نلجأ إلى ما حدده القانون للقول في أي الحالات يعتد بها وفي أي الحالات لا يعتد بها، فالقانون لا يعتد بالإرادة إلا إذا كانت سليمة وحرة الاختيار، إذ نجده يقرر عدم المعاقبة في الحالات التالية: الجنون، صغر السن، الاكراه، وهي أسباب ذاتية )شخصية( تتعلق بالشخص مرتكب الجريمة.
وبناء على ما سبق وارتباطا بمذهب الاختيار سندرس العوارض والأسباب المؤثرة على المسؤولية الجنائية أو المانع لها، وذلك في العوارض التالية: الجنون، صغر السن، الاكراه.

  • الفقرة الأولى: الجنون

الجنون بمعناه العام لا يثير إشكالا، ولكن المسألة تصبح محل جدل فيما لو أردنا توسيع مفهوم الجنون ليشمل كل حالات الأمراض النفسية والعصبية التي تصيب المرء وتضعف عقله، حيث أن تقدم العلوم الطبية أثبت وجود عدة حالات إلى جانب حالة الجنون بمعناه الضيق من شأنها أن تضعف شعور المرء وتفقده القدرة على التحكم في أعماله[25]، ويقول الدكتور محمد نجيب حسني “…إن صياغة تعريف دقيق للجنون ليس من اختصاص رجل القانون، وإنما المرجع فيه إلى طب الأمراض العقلية، ويستطيع القاضي الرجوع الى الطبيب المختص لتحديد ما إذا كان المتهم مجنونا أو غير مجنون”
الجنون في مفهومه الطبي هو إصابة المخ بمرض يؤدي إلى اضطراب كل القوى العقلية أو بعضها أي توقف الرسائل العصبية التي تنتقل عبر الأعصاب الحسية إلى المراكز العصبية بالمخ التي تكون ناتجه عن التأثر العصبي بالمحيط الخارجي الذي يحس به الإنسان، حيث لا يقوم المخ بترجمة الإحساس إلى معنى محدد يستند إلى خبرات الشخص السابقة.
وبالتالي فإن الجنون هو اضطراب يلحق القوى العقلية للشخص بعد أن كانت عادية تؤدي وظيفتها، وهذا الاضطراب منشأه أسباب مختلفة منها ما يكون ناشئ عن مرض
عضوي، أو عن مرض نفسي، وجنون قد يكون مستمرا مطبقا كما في أغلب الحالات، وقد يكون متقطعا ومتناوبا بحيث تعتري فيه المجنون فترات يرجع فيها لرشده، ويستعيد قواه العقلية، وفي كافة الأحوال فإن حكم الجنون فقدان القوى العقلية لوظائفها الحيوية واحد لا يختلف وهو أن الفاعل تمتنع مساءلته الجنائية إذا ارتكب الجريمة وهو في حالة الجنون، غير أن هذا الحكم لا يعمل به، إذا تبت أن الشخص المشهور بالجنون المتقطع قد ارتكب الجريمة وهو في حالة إفاقة.
وتجدر الإشارة إلى أن الجنون لا يعدو أن يكون سوى حالة من حالات الخلل العقلي التي تدخل ضمن العاهات العقلية، إلى جانب الأمراض العقلية الأخرى[26] مثل )مرض اليقظة أثناء النوم وهو نوع من الأمراض يجعل الشخص يتحرك أثناء نومه، دون شعور أو إدراك. أيضا مرض الصرع وهو عبارة عن نوبات تنتاب الشخص تجعله فاقدا لإدراكه ووعيه. العته وهو صورة من صور القوى العقلية للشخص مردها عدم اكتمال النمو الطبيعي للملكات العقلية والذهنية(.
وبذلك فقد ساوى المشرع الجنائي بينهما مكتفيا بأثرهما وهو فقدان الإدراك وحرية الاختيار وقت ارتكاب الجريمة، فالقاسم المشترك بينهما أنهما مرض يصيب القدرات العقلية والذهنية للإنسان فيعدم التمييز و الإدراك، ومن ثم انعدام الإرادة[27].

  • الفقرة الثانية: صغر السن

من المسلم به أن الطفل يولد عاجزا فاقدا للتمييز والإدراك، وبمرور الوقت تبدأ ملكاته العقلية والنفسية في النمو تدريجيا حتى تكتمل وتنضج ببلوغ الطفل سنا معينة يفترض فيها أنه مكتمل العقل، وبناء على تلك السن يكون صاحبها متمتعا بقدر كاف من الأهلية التي تمكنه من قدره التمييز والإدراك وحرية الاختيار، هذه القدرة قد تكون ناقصة وتسمى عند إذن بمرحلة نقص التمييز، أو تكون كاملة وتسمى مرحلة التمييز الكامل أو مرحلة الرشد، في هذه الحالة الأخيرة تكون مسؤولية من يرتكب الجريمة مسؤولية جنائية كاملة[28]، وهو في نظر القانون لم يعد طفلا بالغا. أما مرحل نقص التمييز والتي تمتاز بدورها بسن معينة يحددها القانون الوضعي، فتكون مسؤولية من يرتكب الجريمة مسؤولية مخففة بحسب طبيعة وقيمة التمييز والادراك لديه.
وتبقى مرحلة مهمة من مراحل صغر السن وهي مرحلة انعدام التمييز والادراك عندها يكون الطفل مرتكب الجريمة منعدم الأهلية، وهي مانع من موانع المسؤولية الجنائية.
ونجد مجموعة من الفقه اعتبر صغر السن سببا من الأسباب التي تأثر على المسؤولية الجنائية فتمنعها إما كليا أو جزئيا بحسب ما إذا كان التمييز عند الصغير منعدما أو ناقصا على ضوء سن الصغير كالتالي:
الطور الأول : سن الصبي دون  الثانية عشرة سنة، في هذه المرحلة من عمر الصغير تنعدم مسؤوليته الجنائية تماما.
الطور الثاني: سن الصبي بين الثانية عشرة والثامنة عشرة سنة، في هذه المرحلة تخفف مسؤولية الحدث وجوبا.
الطور الثالث: سن الصبي يصل أو يتجاوز سن الثامنة عشرة سنة، و في هذه المرحلة يعتبر الحدث بالغ لسن الرشد، و بالتالي يتحمل تابعات فعله وتقوم مسؤوليته الجنائية.[29]
خاتمة:
لايزال موضوع المسؤولية الجنائية ومدى تحمل الإنسان المقترف للإجرام المسؤولية من عدمها من أكثر الموضوعات المثارة للخلافات في وجهات نظر الباحثين،
فإذا كانت المدرسة التقليدية وروادها يربطونها بحرية اختيار الجاني، فإنها قد نالت حظها من الانتقادات، مما جعل الطريق مفتوحا لظهور آراء أخرى حيث تم التنكر لهذا المبدأ، وقررت بذله مبدأ الحتمية، الذي اعتبر أن الجاني مدفوع لارتكاب الفعل الجرمي وهذا ما جاءت به المدرسة الوضعية التي اعتمدت الملاحظة والتجربة في دراساتها العقابية، وظهرت هذه الأخيرة في الريع الأخير من القرن 19عل يد ثلاثة رواد لمبروزو، فيري ،جاروفالو، لتتبعها المدارس الاجتماعية التي دعت إلى الجبرية والتيسير، وصولا إلى المذاهب التوفيقية التي مزجت بين أفكار أنصار المذاهب الاختيارية والجبرية محاولة بذلك تجاوز الانتقادات التي وجهة إلى كلا المذهبين، وهو ما سنتطرق إليه بنوع من التفصيل رفقت زملائنا الكرام.
[1] د. محمد تكمنت ، الوجيز في الأحكام العامة للقانون الجنائي  ـ الجريمة ـ طبعة 2004.
[2] ماهر عبد شويش الدرة، المسؤولية الجنائية، الطبعة الثانية، مؤسسة نوفل للطباعة والنشر، بيروت 1994-94.
[3] ماهر عبد شويش الدرة، مصدر سابق.
[4] أبو محمد عبد الكريم الشهر ستاني، النمل والنحل، الجزء الأول، دار المعرفة بيروت.
[5] محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات، القسم العام، النظرية العامة للجريمة ،1962، دار النهضة العربية، القاهرة، مصر.
[6] محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات، ص 18.
[7] محمود خلف، العود في التشريع الجنائي الإسلامي والقوانين الوضعية،1990.
[8] احمد شوقي عمر أبو خطوه، علم الاجرام، ص27.
[9] احمد عوض بلال، المرجع السابق ص156.
[10] محمد خلف، المرجع السابق، ص 112.
[11] محمود نجيب حسني، علم العقاب ص3، 1973، دار النهضة العربية، القاهرة، مصر.
[12] احمد عوض بلال، المرجع السابق رقم، ص 158.
[13] محمد خلف، المرجع السابق، ص116.
[14] محمود نجيب حسني، شرح قانون العقوبات، ص20.
[15] محمد خلف، المرجع السابق، ص117.
[16] محمد خلف، المرجع السابق، ص118.
[17] محمد خلف، المرجع السابق، ص118.
[18] المجلة العربية للدفاع الاجتماعي: ص 52، العدد 18، مطبعة النجاح الجديدة 1982.
[19] المجلة العربية للدفاع الاجتماعي: ص 60.
[20] أبو محمد عبد الكريم الشهر ستاني، النمل والنحل، الجزء الأول، دار المعرفة بيروت.
[21] أبو علي الفضل ابن الحسين الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن، دار الكتاب اللبناني، بيروت
[22] محمد سليمان موسى –قانون الطفولة الجانحة والمعاملة الجنائية للأحداث ص 211.
[23] محمد كمال الدين إمام المسؤولية الجنائية –أساسها وتطورها-دراسة مقارنة في القانون الوضعي والشريعة الإسلامية ص 210.
[24] الدكتور نوفل علي الصفو استاد القانون الجنائي مساعد، مقدمة في المسؤولية الجنائية ص2-3.
[25] من بين الأعمال: الصرع، الهستيريا، انفصام في الشخصية…إلخ
[26] الدكتور عبد الواحد العلمي، أستاذ القانون الجنائي، شرح القانون الجنائي المغربي، القسم العام ص:341.
[27] فتيحة محمد قوراري، الاتجاهات الجديدة في شأن امتناع المسؤولية الجنائية للخلل العقلي.
[28] عبد الله سليمان – النظرية العامة للتدابير الاحترازية – دراسة مقارنة، المؤسسة الوطنية للكتاب 1990، ص 320.
[29] الدكتور عبد الواحد العلمي، أستاذ القانون الجنائي، شرح القانون الجنائي المغربي، القسم العام ص:350.

Related Articles

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button